يقين 24/ حليمة صومعي
في زاوية من زوايا البلاد، يجلس رجل خمسيني يُقلب بطاقته الصحية الصغيرة، تلك التي وعدوه بها أنها جواز عبور نحو كرامة العلاج، فإذا بها تتحول إلى رمز لعجزه الدائم. بطاقة AMO، التي كان يفترض أن تفتح له أبواب المستشفيات، صارت تفتح أمامه أبواب اليأس.
منذ حصوله عليها، اكتشف جيلالي أن الطريق إلى الطبيب لم تعد تمرّ من المعاناة الجسدية فقط، بل من متاهة البيروقراطية والفقر المزمن. لم يعد المرض وحده ما يؤلمه، بل هذا النظام الذي جعله أسير فقر لا نهاية له: لا يستطيع العمل، لأن دخله سيُسقط عنه صفة “المعوز”، ولا يستطيع العلاج، لأن أي حركة بسيطة تخرجه من لائحة المستفيدين.
هكذا يعيش المواطن بين حدّين: أن يبقى فقيراً ليستفيد، أو أن يحاول النهوض فيُعاقَب بحرمانه من العلاج. نظام غريب في منطقه، يجعل الفقر شرطاً للاستمرار في الحياة، ويُحوّل المريض إلى رهينة لإثبات عوزه.
في كل مرة يزور المستشفى، يُطلب منه “تحديث المعلومات”، “التحقق من الوضعية”، “إثبات الاستحقاق”… كأن الدولة تشكّ في مرضه أكثر مما تشكّ في الفساد الذي ينخر مؤسساتها. لا دواء قبل أن تُثبت أنك ما زلت فقيراً، ولا علاج قبل أن تؤكد أنك ما زلت محتاجاً.
تتحدث الحكومة عن “العدالة الاجتماعية”، لكنها نسيت أن العدالة لا تُقاس بعدد البطاقات الموزعة، بل بمدى احترام كرامة من يحملها. المواطن الذي يقف في الصف منذ الفجر، بين أوراق مطبوعة وأختام متكررة، لا يشعر بأنه محميّ بنظام صحي، بل مراقَب بنظام يضعه تحت المجهر كلما حاول أن يتنفس خارج الفقر.
لقد صار AMO مرآة تعكس هشاشة واقع اجتماعي موجع: فقراء يُمنحون بطاقة، لا لتخفيف معاناتهم، بل لتذكيرهم بأنهم فقراء. بطاقة تشبه قيداً ناعماً، تُقيّد الأمل قبل الجسد.
إن أخطر ما في هذا النظام أنه لا يداوي، بل يُبقي الفقير في حالة “قابلية للفقر”، يُدوّره في دائرة مغلقة من التبعية، حيث العلاج مشروط، والكرامة مؤجلة، والحياة نفسها تخضع لمراجعة دورية.
ربما آن الأوان لنسأل بصوتٍ مرتفع:
هل التأمين الصحي للفقراء هو حق في الحياة أم وسيلة لإدارتهم كما تُدار الملفات؟
هل المطلوب أن يبقى المواطن محتاجاً ليُثبت أحقيته في العلاج؟
الفقر ليس قدراً، لكنه في هذا الوطن أصبح نظاماً إدارياً محكماً، له بطاقة تعريف، ومساطر، وتطبيقات، وشروط.
وفي النهاية، لا يحتاج الفقير لبطاقة تحمل اسمه بقدر ما يحتاج إلى دولة تحمله إن سقط، لا أن تُسقطه كلما حاول أن يقف.
في ممر ضيق بالمستشفى، جلس جيلالي على كرسي بلاستيكي مائل، يضع يده على صدره وينظر إلى بطاقة AMO بين أصابعه المرتجفة. لم يكن يفهم القوانين ولا التعقيدات، فقط يعرف أنه يتألم. أمامه الممرضة تهز رأسها وتقول: “النظام لا يقبلك يا عم جيلالي، حالتك غير مفعّلة.”
ابتسم بمرارة وقال بصوت خافت:
“حتى المرض ما بقاش يعترف بيا…”
ثم أطرق رأسه، كمن أدرك أن الفقر في هذا البلد ليس مرحلة، بل قدر مكتوب بحبر لا يمحى.

