في مهرجان بني ملال الأخير، لم تكن الأضواء وحدها هي ما لفت الأنظار، بل كانت الكواليس الصحفية مصدر المفارقة الأكبر. فمن جهة، صحافيون يركضون في كل الاتجاهات، يحملون الكاميرات، ويدونون الانطباعات، وينتظرون طوابير طويلة لأجل تصريح رسمي. ومن جهة أخرى، صحافيون لم يخطوا خطوة واحدة نحو ساحة الحدث، لكنهم نشروا تغطيات صحفية وكأنهم كانوا هناك… في الصف الأول.
كنتُ من بين أولئك الذين عاشوا المهرجان لحظة بلحظة. تنقلت بين الحشود، خضتُ معارك صغيرة مع معداتي وسط الزحام، وقاومت أعطال الصوت والضجيج والانفعالات. عدتُ إلى بيتي في ساعة متأخرة، مجهدة لكن فخورة بمواد حصرية جمعتها بجهد وتعب. وما هي إلا ساعات، حتى تصدّرت تغطيات إلكترونية لزملاء لم ألتقِ بهم قط خلال المهرجان، وقد سردوا “تفاصيل دقيقة” عن الحدث، بعضها يبدو مأخوذًا من ذاكرتي شخصيًا، وبعضها الآخر من صفحات “فايسبوك” المحلية.
هذه الظاهرة لم تعد استثناء، بل تحولت إلى عرف جديد في المهنة: صحافي ميداني يتعب، يتصبب عرقًا، يركض خلف المعلومة؛ بينما آخر، يكتب من مقعده الوثيرة، يراقب ما ينشره الآخرون، ثم يُعيد التدوير بنكهة إنشائية وينشره باسمه. هكذا يُنتج “السبق الصحفي” في زمن الصحافة الرقمية، وهكذا يربح “الناعسون” جهد “المُتعبين”.
لا يتعلق الأمر هنا بغيرة مهنية، بل بتساؤلات مشروعة عن معايير الإنصاف داخل الحقل الصحفي. من يحضر فعليًا؟ من ينقل الحقيقة من عين المكان؟ من يُمنح الاعتماد ومن تُفتح له الأبواب؟ ومن يظل يطرق على أبواب المؤسسات، بلا رد ولا تقدير، رغم أنه صاحب المادة الأصلية؟
إن ما يحصل يضع مصداقية الممارسة الصحفية على المحك، ويطرح سؤالاً مزعجًا: هل تحولت الصحافة إلى لعبة حظ؟ هل يكفي أن تكون سريعًا في النسخ لتكون ناجحًا؟ وأين ذهبت أخلاقيات المهنة التي تكرم من “يعمل”، لا من “ينقل عن من يعمل”؟
ما يحدث في المهرجانات والمحافل الميدانية يكشف واقعًا هشًا تعيشه الصحافة اليوم، حيث تُختزل المهنية في عناوين جذابة وصور مسروقة، بينما يُهمش أصحاب الجهد الحقيقي. وفي ظل غياب آليات واضحة لإنصاف الصحافي الميداني، وتقدير قيمة المعايشة الميدانية، فإننا نخسر كل يوم جزءًا من روح الصحافة.
الصحافة ليست مجرد كتابة، بل مسؤولية. هي حضور قبل أن تكون منشورًا، وهي عرق وجهد قبل أن تكون “تقريرًا فاخرًا”. وما نطلبه ليس تكريمًا ولا تصفيقًا، بل اعترافًا بسيطًا بأن من خدم فعلاً… هو من يستحق الذكر.