يقين 24/ حليمة صومعي
في زمن تشتد فيه حرارة التنافس السياسي، وتقترب فيه صناديق الاقتراع، يبدو أن بعض السياسيين يفضلون سلوك طريق “الفرقعات الكلامية” بدل طريق الإنجاز الحقيقي. فبدل تقديم حلول واقعية لمشاكل المواطنين، نسمع تصريحات غريبة تُبث على الهواء مباشرة لتشعل مواقع التواصل وتزرع الخوف في النفوس.
من بين هذه التصريحات، خرج النائب البرلماني أحمد التويزي، رئيس الفريق النيابي لحزب الأصالة والمعاصرة، ليقول أمام الكاميرات وبكل ثقة إن “الورق يُطحن ويقدَّم للمغاربة كدقيق مدعم”.
عبارة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، لأنها مست، في الصميم، أمن المغاربة الغذائي، وأدخلت الشك إلى بيوت الأسر البسيطة التي لا تملك سوى “ثقتها في رغيفها اليومي”.
ما قاله التويزي لم يكن مجرد “زلة لسان” عابرة، بل تصريح خطير صدر عن نائب برلماني من حزب يوجد في قلب الحكومة، لا من صفوف المعارضة.
فكيف يمكن لممثل للأغلبية أن يتهم الحكومة التي ينتمي إليها بالتقصير في مراقبة الدقيق، وكأنه يريد أن يصنع بطولة من رماد الكلام؟
تصريح التويزي كان كافياً ليعم الغضب مواقع التواصل، ويثير الفزع بين المواطنين. فالعبارة “الورق يُطحن ويقدَّم للمغاربة” حملت إيحاءً صريحاً بالخطر، حتى وإن حاول لاحقاً تبريرها بأنها “سوء فهم”.
لكن، وهل المواطن الذي يُغلب على أمره يعرف لغة المجاز التي خاطبها به؟
المغاربة لا ينتظرون دروساً في البلاغة، بل يريدون من ممثليهم في البرلمان وضوحاً ومسؤولية، لا عبارات مبهمة تفتح باب الشك في لقمة عيشهم.
بعد الضجة التي أحدثها تصريحه، خرج التويزي ليقول إن كلامه “أسيء فهمه”، وإنه لم يقصد أن المغاربة يأكلون الورق فعلاً، بل أراد التنبيه إلى “تلاعبات في فواتير بعض المطاحن”.
لكن التبرير جاء أضعف من التصريح نفسه، وأقرب إلى التهرب منه، لأن العبارة كانت قاطعة وواضحة ولا تحتاج لتفسير أو تأويل لغوي.
السياسة، يا سادة، ليست استعراضاً أمام الكاميرات، بل التزام ومسؤولية.
والنائب البرلماني، حين يتحدث، لا يمثل نفسه فقط، بل يمثل مؤسسة دستورية وصوت أمة بأكملها. فهل يعقل أن يُسمح لأي مسؤول، مهما علا شأنه، أن يطلق اتهامات من هذا الحجم دون دليل أو تحقيق؟
القانون المغربي واضح وصارم في مثل هذه الحالات، إذ تنص المادة 72 من القانون الجنائي على ما يلي:
“يعاقب بغرامة من 20.000 إلى 200.000 درهم كل من قام بسوء نية بنشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف أو ادعاءات غير صحيحة إذا أخلت بالنظام العام أو أثارت الفزع بين الناس”.
وبناء على هذا النص، فإن النيابة العامة ملزمة اليوم بالتحرك الجدي للتحقيق في هذه التصريحات التي مست الأمن الغذائي للمغاربة.
فالقانون لا يفرق بين من ينشر خبراً كاذباً على “فيسبوك” ومن يذيعه من منبر رسمي أو أمام وسائل الإعلام، طالما أن النتيجة واحدة: بث الرعب وزعزعة الثقة في مؤسسات الدولة.
السياسي الحقيقي لا يحتاج إلى “الفرقعات” ولا إلى “التهويل” ليكسب تعاطف الناس، بل يربح احترامهم بالصدق والإنجاز والإنصات لهمومهم.
أما تلك الشعارات الجوفاء والخرجات غير المحسوبة، فهي لا تصنع زعيماً، بل تفضح خواء الخطاب.
إن ما قاله التويزي لا يمكن اعتباره مجرد سقطة لغوية أو سوء تقدير، بل هو تصريح يقتضي المساءلة القانونية والسياسية، لأن اللعب بأعصاب المغاربة لا يدخل في خانة “الجرأة السياسية”، بل في خانة “التهور الكلامي”.
فإذا كان ما قاله صحيحاً، فليقدّم الأدلة والوثائق، ولتتحرك النيابة العامة لمحاسبة المتورطين في هذا الفساد الخطير.
أما إن كان كلامه مجرد “خرافة انتخابية”، فعليه أن يتحمل مسؤولية نشر أخبار زائفة أخلت بالنظام العام وأثارت الهلع بين الناس.
السياسة ليست “قال بلا ميزان الكلمة خسران”، بل هي ضمير، وموقف، ومسؤولية أمام الله والوطن والتاريخ.
والمغاربة اليوم، أكثر وعياً من أن تنطلي عليهم خطابات “الشعبوية” و”الكلام الخاوي” الذي لا يُطعم جائعاً ولا يبني ثقة في المستقبل.

