في كل مناسبة وطنية أو محطة مفصلية، يلقي جلالة الملك محمد السادس نصره الله خطابا ينتظر منه أن يحدد ملامح المرحلة، ويوجه الدولة نحو أولويات استراتيجية في قطاعات حيوية كالصحة، والتعليم، والاستثمار، والعدالة الاجتماعية. ورغم أن هذه الخطب غالبا ما تكون دقيقة في تشخيص الأعطاب، صريحة في التوجيه، وحازمة في النبرة، إلا أن الواقع يكشف عن إشكال قانوني مزمن: غياب آليات قانونية تحول الخطاب إلى فعل، والتوجيه الملكي إلى سياسة عمومية ملزمة.
فالدستور المغربي رغم تأكيده على مكانة المؤسسة الملكية ،لا يدرج الخطابات الملكية ضمن مصادر “القاعدة القانونية” بالمعنى الضيق. إذ أن القاعدة القانونية، كما تُعرف في النظرية العامة للقانون، يجب أن تصدر عن سلطة تشريعية أو تنظيمية مختصة، وفق مساطر محددة، وتدون وتنشر بالجريدة الرسمية، وتكون قابلة للتقاضي أمام المحاكم. وهذه الشروط لا تنطبق على الخطاب الملكي، مهما كان مضامينه دقيقة ومباشرة.
وهذا يطرح إشكالا حقيقيا: ما قيمة خطاب سياسي سام لا يجد طريقه إلى التنفيذ؟
وقد أدى هذا التساؤل إلى مفارقة واضحة: إذ أن خطبا ملكية عديدة دعت بشكل صريح وفي أكثر من مناسبة إلى مراجعة النموذج التنموي، إلى إصلاح المنظومة التعليمية، إلى محاربة الفساد، إلى تعزيز العدالة المجالية، وإلى جعل الاستثمار أولوية وطنية… غير أن عددا من هذه الدعوات لم تتجاوز سقف الخطاب، وظلت أسيرة التصفيق والتأويلات الإعلامية، لأن الإطار القانوني والمؤسساتي لا يُجبر الفاعلين على تحويلها إلى سياسات عمومية قابلة للتتبع والمساءلة.
وما يزيد من تعقيد المشهد، هو أن بعض المسؤولين يستعملون الخطب الملكية كشعارات لتبرير قراراتهم، دون التزام فعلي بمضامينها، بينما يتذرع آخرون بغياب النصوص التطبيقية لتأجيل التنفيذ أو التملص منه.
إن استمرار هذا الوضع لا يطرح فقط أزمة تفعيل، بل يهدد أيضا مكانة الخطاب الملكي في المخيال السياسي الوطني، ويفرغه من روحه إذا لم يقرن بالفعل، وتظل مخاطره أكبر حين يتحول المواطن من منتظر للإصلاح إلى ساخر من تكرار الوعود دون أثر.
فهل حان الوقت للتفكير في إطار قانوني جديد يحدث “مرصدا لتتبع تنفيذ الخطابات الملكية”، أو “آلية دستورية لتحويل التوجيهات الملكية إلى مبادرات تشريعية إلزامية”، تكون خاضعة لمساءلة البرلمان وتقييم الرأي العام؟.
إن الجواب عن هذا السؤال ليس ترفا فكريا، بل ضرورة مؤسساتية لضمان الانسجام بين السلطة الرمزية الأعلى في البلاد وبين الأداء التنفيذي والتشريعي.
فقيمة الخطب الملكية لا تتحقق بالتصفيق، ولا بالتأويلات الصحفية، بل بقياس أثرها على أرض الواقع، ولا بد أن تقرن هذه التوجيهات بمؤشرات واضحة، وآليات تتبع دقيقة، ومساءلة مؤسساتية صريحة، حتى تظل تلك الخطب نبضا حيا في جسد الدولة، لا مجرد وثائق تلقى وتنسى.
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً.