فؤاد غرسا
(اختصاصي في المنازعات التجارية والمدنية وتحصيل الديون المتعثرة)
لا يمكن وصف مصادقة مجلس الحكومة، أمس، على التعديلات الجوهرية لمدونة التجارة بشأن الشيك بدون رصيد إلا بـ “القفزة النوعية”. فبعد سنوات طويلة قُدّرت فيها جريمة الشيك بعقوبة سالبة للحرية كأداة ضغط لضمان حقوق الدائنين، أتى الإصلاح ليُعيد تموضع هذه الجريمة من خانة الجنائية المفرطة إلى مربع اقتصادي وإنساني أكثر عقلانية.
الفلسفة الجديدة تبدو واضحة ونبيلة في إخراج المتعثرين حسني النية من السجن، مع ضمان حقوق الدائنين وتشجيع التسوية. وقد تجسدت هذه الرؤية في ثلاثة مرتكزات رئيسية:
نزع فتيل الجريمة عن المبالغ البسيطة بإلغاء العقوبة السجنية للشيكات التي تتراوح قيمتها بين 10,000 و 20,000 درهم، يُخفف المشرع ضغطاً هائلاً عن السجون.
تحويل القاعدة إلى “الأداء يُسقط المتابعة نهائياً” هو اعتراف بأن الهدف الأسمى للقانون هو استرجاع الحق، لا معاقبة المعوز، حتى لو كان المتهم معتقلاً أو فاراً.
هنا يكمن الابتكار الأكبر. منح الساحب مهلة شهر، قابلة للتجديد، لتسوية الوضعية، مقابل الخضوع للمراقبة القضائية عبر “السوار الإلكتروني”. إنها معادلة توازن ذكية تضمن للمدين فرصة العمل، وللدائن ضمانة عدم الفرار.
ولم يفت المشرع النظر إلى البعد الاجتماعي، حيث شملت التعديلات إلغاء تجريم الشيكات بين الأزواج، في خطوة مستحقة لرفع يد القانون الجنائي عن الخلافات الزوجية، تاركاً حلها للقواعد المدنية.
مع كل هذا التفاؤل، يجب أن نكون واقعيين. الإصلاح القانوني وحده لا يكفي للقضاء على تركة ثقيلة خلفتها سنوات من سوء التدبير والتهرب.
إننا نتحدث عن مليارات الدراهم وملايين الشكاوى التي لم تُسوَّ بعد. والمشكلة الأساسية ليست في النص القانوني القديم، بل في فشل آليات التبليغ والوصول إلى المدينين، الذين تمكنوا من التهرب بمجرد تغيير عنوان الإقامة المسجل في البطاقة التعريفية الوطنية، ليصبحوا موضوع آلاف برقيات البحث الصادرة عن النيابة العامة دون جدوى.
هذا التراكم الهائل يُشكّل التهديد الأكبر لنجاح شرط “السوار الإلكتروني”. وفي تحليلنا لهذا الواقع،
نجد أن هذا الملف العالق يُهدد شرط السوار الإلكتروني، لأن المراقبة تعتمد على وجود عنوان إقامة ثابت ودقيق. بالنسبة للآلاف المبحوث عنهم، لن يكون بالإمكان تطبيق هذا الشرط فوراً إلا بعد القبض عليهم وتأكدهم من تقديم دليل قاطع على محل إقامة يخضع للمراقبة
ونضيف محذرين قد يُعتبر عدم تقديم عنوان صحيح ومناسب للمراقبة الإلكترونية دليلاً واضحاً على نية الفرار أو عدم جدية التسوية. وهذا من شأنه أن يدفع النيابة العامة إلى عدم منح المهلة وطلب الإيداع في السجن مباشرة (في المبالغ التي تتجاوز العتبة)، خوفاً من إعطاء فرصة إضافية للمتهربين سيئي النية لتبديد أصولهم.”
خلاصة القول
لقد وضع القانون الجديد الأسس الضرورية لـ “أنسنة” العقوبة وتحرير الآلاف من دوامة السجن. لكن، يظل الرهان الحقيقي الآن على قدرة الحكومة والجهات القضائية على حل المعضلة الإجرائية للتبليغ وتثبيت الإقامة. فالتخفيف من العقوبة الجنائية وحده لا يمكن أن ينهي أزمة مليارات الدراهم العالقة ما دامت آليات التوصل إلى المتهربين غائبة أو غير فعالة. إنها معركة لا تخص إصلاح القانون فحسب، بل إصلاح الإجراءات الإدارية والقضائية التي تضمن مصداقية العناوين الوطنية

