في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المغرب، تتزايد الحاجة إلى فهم عميق لسلوك المواطنين داخل الفضاء العام، وذلك في إطار السعي إلى ترسيخ ثقافة مدنية مسؤولة تليق برهانات الحاضر وتطلعات المستقبل. وقد شكّل التقرير الأخير الصادر عن المركز المغربي للمواطنة في ماي 2025 محطة مهمة لتشخيص واقع السلوك المدني لدى المغاربة، حيث كشف من خلال دراسة ميدانية شملت أكثر من 1100 مستجوَب عن مجموعة من المؤشرات المقلقة، وفي الوقت نفسه المفعمة بالأمل، في ما يخص علاقة المواطن المغربي بفضائه العام ومحيطه الاجتماعي.
أولى النتائج اللافتة في التقرير تتمثل في تراجع مظاهر التضامن والمبادرة الفردية في الفضاء العام. فقد صرّح عدد مهم من المشاركين بأنهم نادرًا ما يمدّون يد المساعدة لكبار السن أو يتدخلون لحل النزاعات البسيطة التي قد تقع في الشارع أو وسائل النقل العمومي. هذا المعطى يشير إلى نوع من الانكماش الاجتماعي وغياب الثقة المتبادلة، وهو ما يؤثر على جودة العيش المشترك ويكرّس سلوكيات سلبية مثل اللامبالاة والعزلة داخل المجال العمومي.
من جهة أخرى، برزت مشكلة النظافة والسلوك البيئي كأحد أبرز التحديات التي تواجه الفضاءات العمومية، حيث أكد أزيد من 73% من المشاركين أنهم يعاينون يوميًا ممارسات غير مسؤولة كالرمي العشوائي للنفايات أو التخريب المتعمد للمرافق العامة. هذه الأرقام تكشف عن فجوة كبيرة بين الخطاب البيئي المتداول والممارسة اليومية للمواطن، وتطرح أسئلة جوهرية حول مدى نجاعة البرامج التوعوية، ومدى حضور التربية البيئية في المنظومة التعليمية والإعلامية.
التقرير لم يغفل كذلك مظاهر التسيب والفوضى في احترام النظام العام، إذ لاحظت نسبة كبيرة من المستجوبين اختلالات مستمرة في احترام الطوابير، وقواعد السير، واستعمال الشتائم والضوضاء المفرطة في الفضاءات العمومية. ورغم أن بعض الفئات العمرية أظهرت مستويات أعلى من الالتزام، خصوصًا في الفئة من 45 سنة فما فوق، فإن الشباب والمراهقين يظلون الفئة الأكثر عرضة للسلوكيات المخلة بالنظام والانضباط، ما يستدعي تدخلًا تربويًا وتوعويًا عاجلًا ومكثفًا.
ولا يمكن فصل هذا التشخيص عن السياق الاستراتيجي الأوسع الذي يعيشه المغرب، وهو التحضير لاحتضان نهائيات كأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال. إذ شدد التقرير على أن نسبة كبيرة من المغاربة يربطون بين حسن التنظيم وجودة السلوك المدني، وبين صورة البلاد أمام الزوار والسياح الأجانب. وقد أبدى أكثر من 80% من المستجوبين قلقهم من تأثير بعض الظواهر السلبية كالعنف اللفظي، التحرش، الإهمال، أو التخريب على سمعة المغرب دوليًا، مؤكدين أن تحسين هذه السلوكيات يجب أن يكون أولوية وطنية قبل الحدث العالمي المرتقب.
في المقابل، يسلّط التقرير الضوء على بعض النقاط الإيجابية، خصوصًا على مستوى وعي المواطنين بدور المؤسسات التربوية والاجتماعية في تغيير هذا الواقع. فقد أقرّ معظم المشاركين بأن الأسرة تمثل الفضاء الأول لغرس السلوك المدني، تليها المدرسة، ثم الإعلام بمختلف وسائطه. كما أبدت شريحة واسعة من المستجوبين انفتاحًا على المشاركة في مبادرات تطوعية أو حملات تحسيسية إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك، مما يدل على وجود استعداد مجتمعي للتغيير، في انتظار تفعيل مبادرات حكومية ومجتمعية متكاملة ومستمرة.
وفي الختام، خلُص المركز المغربي للمواطنة إلى أن إصلاح السلوك المدني بالمغرب لا يجب أن يُنظر إليه كحالة معزولة أو ظرفية، بل كأولوية وطنية تهم جميع الفاعلين: الدولة، المدرسة، المجتمع المدني، الإعلام، والقطاع الخاص. فبناء مواطن متشبع بقيم الاحترام والانضباط والتعاون ليس فقط مدخلًا لتحقيق التعايش والتماسك الاجتماعي، بل هو ركيزة أساسية لصورة المغرب في الداخل والخارج، خاصة في المحطات العالمية الكبرى التي تستعد المملكة لاستقبالها