لم يكن القرار الأخير الذي تبناه مجلس الأمن الدولي بخصوص قضية الصحراء المغربية مفاجئًا، لكنه بالتأكيد لم يكن سهلاً. فبينما استند إلى سلسلة “الانتصارات” الدبلوماسية التي حققها المغرب خلال السنوات الأخيرة، والتي تُرجمت في اعترافات متزايدة بوجاهة مقترح الحكم الذاتي ومغربية الصحراء، فإن حرب الكواليس كانت العامل الحاسم في الأمتار الأخيرة قبل التصويت.
تأجيل “تقني” يخفي شدّ حبال دبلوماسياً
وراء ما قُدم رسمياً على أنه تأجيل تقني بسبب تطورات السودان، كان هناك صراع دبلوماسي محتدم، حاولت خلاله الجزائر حتى اللحظة الأخيرة تعديل صياغة القرار أو تخفيف لهجته.
لكن تلك المحاولات فشلت أمام تماسك الموقف الأمريكي، الذي أصرّ على أن يتضمن النص تأكيدًا جديدًا على أولوية المقترح المغربي للحكم الذاتي باعتباره “حلاً واقعياً، ذا مصداقية ودائماً”.
الأكثر أهمية، أن الولايات المتحدة دفعت هذه المرة نحو إدراج الجزائر كطرف معني بالمسلسل السياسي، وليس مجرد “دولة مجاورة”، وهو ما تعتبره الرباط تحولاً استراتيجياً في اللغة الأممية، فيما حاولت الجزائر—دون جدوى—تغيير هذا التوصيف ولو بكلمة أو فاصلة، حسب ما نقلته جون أفريك عن مصادر دبلوماسية في نيويورك.
سقوط “سردية الحياد الجزائري”
يرى الدبلوماسي المغربي السابق أحمد فوزي أن المشهد يعكس “نهاية سردية قديمة” لطالما روجتها الجزائر داخل الأمم المتحدة، مفادها أنها “غير معنية بالنزاع”.
اليوم، ومع تكرار القرارات الأممية بالصياغة نفسها، واصطفاف عواصم كبرى مثل واشنطن وباريس ولندن، إضافة إلى عدد من الدول الإفريقية، بات من الصعب على الجزائر أن تبقى خارج دائرة المسؤولية السياسية.
وشبّه أحد الدبلوماسيين وضع الجزائر بـ“الملاكم المحشور في زاوية الحلبة”: تتحرك، تتصل، وتضغط، لكنها لا تملك الكثير لتقدمه سوى ورقة الغاز وعضويتها المؤقتة في مجلس الأمن، وهي أوراق لم تغيّر شيئاً في مسار نصّ صاغته واشنطن وحمته العواصم الغربية.
معركة اللغة.. “من يفرض المفردات يفرض الواقع”
كشفت الكواليس أن المعركة لم تعد حول الجوهر، بل حول اللغة. فالقواعد الأساسية أصبحت محسومة:
-
الحكم الذاتي هو قاعدة التفاوض.
-
الجزائر طرف أساسي في النزاع.
-
العودة إلى صيغة المائدة المستديرة الرباعية (المغرب، الجزائر، موريتانيا، البوليساريو).
أما الباقي، فمجرد تفاصيل خطابية تسمح للجزائر بإظهار نفسها داخلياً كـ”مقاوِمة”، بينما الحقيقة – كما يعلّق أحد الدبلوماسيين – هي: “لا نؤجّل تصويتاً نعتقد أنه محايد، بل نؤجّل تصويتاً نعرف أننا سنخسره”.
“دبلوماسية الثبات”.. لا ضجيج في الانتصار
الرباط لم تتعامل مع التصويت بمنطق الانتصار الصاخب. فكما كتبت جون أفريك، تمسكت بما تسميه “دبلوماسية الثبات”: المسار نفسه منذ 2007، دون استفتاء، حلّ سياسي واقعي، ومشاركة جميع الأطراف مع تحميل الجزائر مسؤوليتها المباشرة.
يقول أحمد فوزي: “هذا ليس انقلاباً بل تثبيت للمسار”.
وذلك يعني أمرين:
-
أن كلمة “استفتاء” خرجت فعلياً من قاموس الأمم المتحدة.
-
أن كل قرار جديد يضيف طبقة من الضغط على الجزائر والبوليساريو للعودة إلى الطاولة دون شروط.
موسكو وبكين.. الحذر بدل العرقلة
توجهت الأنظار نحو روسيا والصين لمعرفة موقفهما. لكن موسكو اكتفت بـ“الامتناع التقني”، فيما اختارت بكين التحفظ الحذر، من دون الدفع نحو إسقاط النص.
فالتوازن الذي بلغه القرار بدا مقبولاً، واستمرار الوضع على حاله لم يعد مقنعاً حتى داخل مجلس الأمن.
خلاصة الكواليس
خلاصة ما جرى في نيويورك يمكن اختصارها في ثلاثة عناوين رئيسية:
-
ترسيخ الحكم الذاتي كمرتكز أساسي لأي حل سياسي.
-
إدراج الجزائر صراحة كطرف في النزاع.
-
الدعوة إلى استئناف العملية السياسية دون شروط مسبقة.
أما الجزائر، فكانت تحاول كسب الوقت وصناعة رواية داخلية عن “التصدي”، في حين أن المسار الأممي لم يتغيّر قيد أنملة.
وهكذا، أثبتت كواليس التصويت أن التحكم في المفردات هو التحكم في الواقع، وأن القلم الأمريكي، الذي تولّى الصياغة هذه المرة، لم يسمح بأي تليين.
وبذلك، كان مشهد 31 أكتوبر في نيويورك فصلاً جديداً من تثبيت مغربية الصحراء في لغة الأمم المتحدة، أكثر منه مجرد تصويتٍ روتيني على قرار أممي.

