رغم الصورة اللامعة التي تحيط بأوروبا كرمز للرخاء والعدالة الاجتماعية، تكشف الأرقام والمعطيات عن واقع مغاير يتسم بالهشاشة الاجتماعية واتساع رقعة الفقر والبطالة وأزمة السكن. فخلف مراكز المدن المضيئة وضواحيها الهادئة، يعيش الملايين في ظروف صعبة، تعكس أزمة اجتماعية متفاقمة تهدد النموذج الأوروبي القائم على المساواة والتضامن.
دراسة حديثة نشرتها منصة “كل أوروبا” في يوليو 2024 تشير إلى أن قرابة 20% من سكان الاتحاد الأوروبي، أي شخص من بين كل خمسة، مهددون بالفقر أو الإقصاء الاجتماعي، وهي نسبة تعني فعليًا نحو 100 مليون شخص بحسب بيانات شركة “ستاتيستا”. وهذا الفقر لم يعد مرادفًا للجوع أو التشرد، بل أصبح يتجلى في العجز عن تلبية الحاجيات الأساسية كالسكن، التدفئة، التعليم، أو الرعاية الصحية، حتى بالنسبة لمن يملكون وظائف بدوام كامل. وتشير نفس الدراسة إلى تباين كبير بين الدول الأوروبية، حيث تسجل بلغاريا ورومانيا أعلى نسب الفقر، بينما تبدو المعدلات في فرنسا وألمانيا أقل نسبيًا، لكنها تخفي تفاوتات داخلية عميقة بين المدن والضواحي، وبين المواطنين والمهاجرين.
وتكشف البيانات أن نحو 10% من العمال في الاتحاد الأوروبي يعيشون تحت خط الفقر، ما ينسف الاعتقاد السائد بأن العمل يمثل ضمانة للحماية من الفقر. والأسوأ من ذلك أن بعض الفئات الهشة – مثل الأسر الكبيرة، والنساء الوحيدات، والمهاجرين – باتت تشكل النسبة الأكبر من ضحايا الفقر، مما يفضح خللًا هيكليًا في توزيع الثروة والفرص، ويشكك في فعالية السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة داخل دول الاتحاد الأوروبي.
التقارير الصادرة عن مرصد اللامساواة الفرنسي تسلط الضوء على جانب آخر من الأزمة، مشيرة إلى أن تعريف “الفقير” لم يعد يعتمد فقط على الدخل، بل على القدرة على العيش بكرامة وفقًا للمعايير الاجتماعية السائدة. فالشخص الذي لا يستطيع دفع الإيجار، أو تغطية تكاليف تدفئة منزله، أو تأمين مصاريف تعليم أطفاله، يُعد فقيرًا حتى وإن كان يشغل وظيفة. وهذا ما يُعرف بـ”الفقر غير المرئي”، إذ أن كثيرًا من المتضررين لا يظهرون في الإحصاءات الرسمية ولا يستفيدون من برامج الدعم الاجتماعي، ما يجعلهم خارج نطاق تغطية السياسات العمومية.
في خضم هذا الوضع، تتجه الأنظار إلى الطبقة الوسطى التي طالما شكلت عماد الاستقرار في أوروبا. غير أن هذه الفئة بدورها لم تسلم من تداعيات الأزمة، حيث باتت تعاني من ما يُسمى “الفقر المقنّع”، وهي ظاهرة وصفها تقرير لموقع “يورونيوز” في يوليو 2025 بأنها نتيجة مباشرة لتآكل القدرة الشرائية، وارتفاع تكاليف المعيشة مقابل ركود أو بطء نمو الأجور. شرائح واسعة من هذه الطبقة تجد نفسها اليوم مثقلة بالديون، مضطرة إلى استنزاف مدخراتها أو اللجوء إلى الاقتراض لتغطية النفقات الأساسية، في مشهد يهدد بتلاشي التوازن الاجتماعي الذي قامت عليه الديمقراطيات الأوروبية الحديثة.
فرنسا تُعد مثالًا دالًا على هذه الأزمة البنيوية. فوفقًا لدراسة أعدها “معهد مونتين” عام 2024، لم تعد الطبقة الوسطى الفرنسية تحتفظ بالاستقرار التقليدي الذي ميّزها لعقود، بل باتت تعاني من “الضغط المزدوج”: فهي لا تستفيد من الدعم المخصص للفقراء، ولا تحظى بالمزايا التي يحصل عليها الأغنياء. هذا الوضع يولد شعورًا عميقًا بالإقصاء واللاعدالة، ويُفسر جزئيًا صعود الحركات الاحتجاجية مثل “السترات الصفراء”، ويعكس فقدانًا تدريجيًا للثقة في الدولة ومؤسساتها.
ورغم إطلاق المفوضية الأوروبية خطة تهدف إلى تقليص عدد المعرضين للفقر والإقصاء الاجتماعي بـ15 مليون شخص بحلول 2030، من بينهم 5 ملايين طفل، إلا أن التقارير تؤكد أن الفجوة بين النصوص والواقع لا تزال واسعة، خاصة في المناطق المهمشة والضواحي المنسية التي تعاني من تراكم الإقصاء، وسوء الخدمات، وغياب الأمل في التنمية. هذه المناطق باتت تمثل رمزًا للاختلالات الاجتماعية العميقة، إذ يواجه سكانها عزلة متشابكة الأبعاد: اقتصادية، اجتماعية، ونفسية، ما يجعل الخروج من دائرة الفقر شبه مستحيل.
في ظل هذه المؤشرات المقلقة، يتضح أن الفقر لم يعد ظاهرة هامشية في أوروبا، بل أصبح جزءًا بنيويًا من المشهد الاجتماعي. ومع تراجع دور الدولة الاجتماعية، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتآكل الطبقة الوسطى، تبرز الحاجة الملحة إلى سياسات جريئة تعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية، وتحمي نسيج المجتمعات الأوروبية من التفكك والانفجار. أوروبا التي طالما افتخرت بنموذجها الديمقراطي، مطالبة اليوم بإعادة ترميم العقد الاجتماعي، وإعادة التوازن بين النمو الاقتصادي وكرامة الإنسان